عظمة اعمال كريستوف كيسلوفسكي الفنية
الإثنين 24 يوليو-تموز 2017 الساعة 12 صباحاً / المركزاليمني للاعلام- خاص – كرامه بن مهري
عدد القراءات (2119)

كرامه بن مهري

لا أستطيع وصف مقدار العظمة والجاذبية التي أراها كل مرة في أعمال كريستوف كيسلوفسكي بصورتها الشاعرية الممزوجة والمدفونة بكل أحاسيس البشرية، هي من الناس وإليهم، من داخلهم وعن مشاعرهم وحول عواطفهم، ربما هو أفضل من عبر عن الحب في السينما وقد يكون صاحب أفضل لغة شاعرية سردية عن الإنسانية، إن كنا سنتحدث عن الأعمال الدرامية الرومانسية يجب أن نضع أعمال كيسلوفسكي في القمة لما لها من مدلولات شعرية وكم إنساني كبير تحملها بداخلها، سينما كيسلوفسكي هي كل السينما وجل عظمتها وأرقى صورها وأكثرها إشباعاً وثراءً، اللغة السينمائية التي يملكها كيسلوفسكي من النادر أن تجدها لدى غيره، كيسلوفسكي هو بجانب كوبريك وتاركوفسكي وبرغمان هؤلاء الأربعة الذين أفرزوا صور سينمائية لا تتكرر، يقدم لنا كيسلوفسكي الألوان الثلاثة في صورها الإنسانية المتعددة وعلاقاتها المتشعبة بداخلها ومع محيطها بكل المحاولات التي تقوم بها في التعامل مع ماضيها وحاضرها، هذه الثلاثية تجسيد حي عن حالات إنسانية تواجه ذاتها في أصعب الظروف وأكثرها إيلاماً، ثلاثية تعبر عن عظمة كيسلوفسكي الأبدية.

الأزرق هو فيلم عن الحب والموسيقى والأمل، عن عشقنا وخيباتنا ومحاولاتنا المتواصلة المعطاة، الأزرق هو روح وشغف جولي (جولييت بينوش) يمثل حوض الماء الذي تسبح فيه وثريا زينة الغرفة التي تحملها معها، جولي التي تحمل الألم وتحاول تعريض نفسها للأذى على أمل نسيان ما بداخلها من وجع، لكن يبقى الألم والجرح الغائر بداخلها لا يوجد لشفائه سوى الحب، هو القادر على علاج ما بها من علل، رغم كل محاولات الهروب التي تقوم بها إلا أنها ما تجد نفسها مرتبطة بكل الماضي وأحداثه من خلال واقعها المرير، الماضي لا يترك البشر ومحاولاتنا لتجاوزه تبوء بالفشل هذه ما تقوله لنا قصة جولي التي فقدت أقرب الناس إليها وأصبح العالم موحش مظلم، رمزية الأزرق لحرية جولي التي أرادت التخلي عن كل شيئ وبدء حياة لا تعرف فيها أحد، هو تعبير لمشاعرها وأحلامها ومخاوفها، جولي الشخص الذي يريد أن ينعزل عن محيطه ويتجنب كل ذكرى وموقف يذكره بالماضي ولكن عبثاً تتبخر كل محاولاتها وترجعها الحياة من جديد لعالمها القديم، وتواتيها الفرصة لتصحيح كل مسارات حياتها وتقديم تسامحها وحبها ومشاعرها المتوهجة من جديد.

فلسفة كيسلوفسكي تجلت من خلال الإيقاع المذهل الذي يقود به عمله في التنقل بين اللقطات وزوايا التصوير العبقرية والتعبير بشكل متميز عن حالة جولي وأوقات الحزن والخوف والإحباط والهروب ثم العودة من جديد، السرد هنا لا يصنع لك قصة شخص فردية بل يضم لك شخوص من الحياة التي تحيط بجولي وعالمها الأزرق، لا يمكننا فهم حالة جولي جيداً إلا بعد أن نعرف سينما كيسلوفسكي التي تتعاطى بكل عنف مشاعري مع شخوصها، هي حساسة وطيبة ونقية وتحمل بداخلها كل الحب، تقدر الحياة وتؤمن بالحب ولا نراها تبكي إلا وهي تحت غطائها أو في ظلام غرفتها، تمسك بقشة أمل تحاول معها آلا تنهزم في معركة الحياة رغم محاولات الهروب، الناس تستطيع أن تعتمد عليها، نستطيع معرفة كم هي مقاتلة وتملك القوة الكافية لإتخاذ قرارات شجاعة من خلال تغيير عالمها القديم ورميه خلفها وبداية حياة جديدة بعيدة عن السابقة المؤلمة، جولي تمثل الأشخاص الذين لا تتركهم أوجاعهم في تقبل الحياة المعتادة، أمر صعب بالنسبة لها الإستمرار بكل هذا الألم المتواصل ولا تجدي معه سوى محاولة الهروب كما تعتقد.

كيسلوفسكي في الأزرق يمجد الحب الذي لو كنت ملاكاً بدونه ستكون تمثال نحاسي فارغ، ولو كنت نبياً سيكون مصيرك كالعدم، الحب الرقيق والصبور الذي يتحمل ويعزف على كل شيئ، الحب الذي لا يموت، النبوات ستضيع والألسن ستصمت والمعرفة ستؤول إلى الضياع والذي سيبقى هو الإيمان والأمل والحب وأعظمهم الحب، علاقة كيسلوفسكي بالموسيقى علاقة وطيدة ومتأثرة بما يقدمه، إقحامه لها في أعماله الأخيرة يعطينا معرفة على مدى توغل النوتات بداخله، في حياة فيرونيكا المزدوجة ستجد العامل المشترك بداخله رغم إختلاف الشخوص هي الموسيقى، في أزرق عند جولي النوتات هي حياتها القديمة والجديدة، هي الأمل والجمال والحب الشيئ الثابت الوحيد بداخلها ولا يفارقها، ربما يمكننا إعتبار ثالوث الحب والموسيقى والأمل هو المسيطر على أفلام كيسلوفسكي، هي أشياء نراها طاغية في أعمال الرجل ولا تخلو منها، تتجمع كلها دفعة واحدة مع شخوص حالمة ومتقلبة وتواجه ظروف حالكة وخيارات حتمية بحياتها، الحب والحياة والمشاعر الإنسانية المضطربة وكل ما يوجد بداخل البشر من قبح وجمال، الصورة تتحدث وتخاطبك من خلال شخوص كيسلوفسكي الشاعرية.

اللون الأبيض مرثية عن غربة الإنسان في قبضة عالم حديدي خالي من العطف والإنسانية والمساواة، كارول (زاماكوفسكي) الشاب البولندي التائه في باريس بعد أن خسر كل شيئ يقرر العودة لموطنه، ورغم طلاقه المأساوي من زوجته دومينيك (جولي ديلبي) إلا أنه يقرر بناء مجده من جديد، من ألمه ويأسه يطمح لتحقيق إنطلاقة مغايرة ينسى بها خيبات أمله وإذلاله وسقوطه ويسعى لإنتقامه الذي يرد به إعتباره، الدافع الحقيقي الكامن بداخل كارول هو الألم الذي يتحول لحافز لصنع شيئا ما يعوضه عن خسارته ووجعه، الحزن الذائب والقهر المتقهقر بداخله، لا شيئ أكثر براعة من صورة كيسلوفسكي عن حالة كارول المشردة والقاسية والخواء الذي أصبح يعيشه، يتنقل بلا مأوى يقيه من بردوة وقسوة الشتاء ويمشي بجيب خالي من أي مال يطعمه من جوع البرد القارس، معاناة كارول أنه وجد نفسه وحيد حتى أقرب الناس رموه للشارع بلا أي ضمير أو وازع أخلاقي، ما بين قساوة الحياة وإنعدام أخلاق أفرادها وغلاضة تعاملهم وقع كارول ولم يجد أي مساواة أو عزاء.

الأبيض هنا في كل شيئ، بياض قلب كارول ونقاء روحه التي تراقب طائر يرمي عليه فضلاته، بياض الإنسانية بداخله وحالة الحب التي لا تقبل الشك والوقوع في الشرك، وبياض إخلاصه الأبدي وعفة نفسه من كل شر، بساطته وتسامحه وسهولة تعامله، بياض ثلج وارسو مسقط رأسه ووجوئها الهادي ومناخها الشتوي وشمسها الدافئة، كارول هو الشخص الحالم في العالم الضائع، المتمسك بكل الأمل ويملك الإصرار الكافي لتحويل الحلم المستحيل للواقع الأكيد، من نوعية البشر رغم العوائق التي تواجههم وتقف في طريقهم إلا أنهم يكسروها بقليل من الحظ والحب، من يمثل حبهم نقاط ضعفهم وقوتهم معاً ومن يخطئون ثم يعودون ويسامحون من جديد، واحد من الأشخاص الذين يستيقظون من كوابيسهم التي يرأون فيها من يحبون، وسرعان ما تتحطم شهواتهم الإنتقامية حينما يشاهدون من يعشقون خلف قبضان السجون، صورة كيسلوفسكي تأخذنا بشكل آخاذ غير قابل للتأويل بشكل عاطفي وعذب مع كارول وعلاقاته ومنعطفات حياته تجعلك تتعاطف مع ضياع رجل في حياته وحبه الضائع المسحوق.

تمثل فالنتين (إيرين جاكوب) في أحمر أولئك الأشخاص الذين يعيشون في عالم متقلب، أشخاص طيبين بعواطف ومشاعر صادقة مع كل البشر، فالنتين عارضة الأزياء التي تجد نفسها وحيدة مع صديق بعيد وأقارب غير متواجدين بالجوار، تجد نفسها على حين غرة متعلقة بكلب صدمته وأرتبطت به ثم إرتبطت بالشخص الذي يملكه، من هناك تبدأ علاقتها برجل كهل غريب يقضي وقته بالتجسس على الجيران، المعاناة التي يعيشها تجعله يعيش وحيد وتعيس، يبدو محمل بهموم لا تحتمل ومشتت بماضيه البعيد الأليم، من خلال هذه العلاقة نستطيع رؤية المقدار الكبير من البراءة والطيبة الذي يوجد بداخل فالنتين ومقدار الظلام وفقدان الأمل في الكهل جوزيف كيرن (جان لوي ترينتينيان)، سرعان ما تنشأ بينهم علاقة تتصاعد ما بين كل هذه الأضداد، كيسلوفسكي يرينا كيف ممكن أن تتحول حياتنا بمجرد معرفتنا وقربنا من أشخاص مثل فالنتين يحملون كل هذا الخير والتسامح وكل الأمل والتفاؤل ويعطون الحب بلا حساب، يملكون الحياة بداخلهم ويهبونها لكل اليائسين والمحطمين.

أن مقدار الحب والعطف بداخل فالنتين وخلوها من المكر والخداع يجعلنا نقف أمام ظروف وأسباب تحول الشخص لأضداد هذه الصفات، كيسلوفسكي من خلال رسم دقيق يقدم لنا الحياة بأفراد متناقضين يحملون كل المشاعر الإنسانية السيئة والحسنة، كيسلوفسكي يرينا الوفاء بداخل الكلب تجاه كيرن الفاقد له في حياته، في مشهد آخر نرى فالنتين وهي تقف في موقف أخلاقي تنحاز فيه لجانبها النقي حينما لا تعلم عائلة عن خيانة أحد أفرادها، إن إختبار كيرن اليائس لفالنتين هو إختبار شخص كان يريد معرفة ما الجانب الذي سيسقط فيه من هو أمامه، هو سقط وتمردغ بالوحل بدون مشاعر وبكل تبلد ولا ضمير إنساني حي، يرى بعينه المقفرة الحياة وهي تحمل بداخلها كل الأسى وتصبح بلا هدف، في نظر كيرن الحكم على ماهو حقيقي وماهو مزيف يبدو نقصاً في الغرور، الغرور والكبرياء هو من يقود عملية الحكم على الأشياء والعدالة لا تعرف البراءة، لو عاش حياة مختلفة كان سيكذب ويسرق ويقتل، نظرات عينيه تؤكد ذلك وكل هذا يحدث لأنه ليس في مكانهم وهذا هو كل أساه.

كيسلوفسكي يصل بتلك العلاقة إلى قمتها من خلال التأثير العميق التي تتركه فالنتين في كيرن، هي تمس جوهره وعمقه كما لم يفعل أحد من قبل، لقد أستطاعت بكل إنسانيتها وفضائلها الخيرة أن تزرع بداخله بعض الأمل وتزرع على محياه الإبتسامة، تملك أضداد صفاته، بحوزتها الروح والحب والشغف في الحياة وهو مالا يمتلكه، ورغم كل السوء والقبح ونظرته السوداوية تجاه البشر وكل ما تراه فيه من ظلام فهي لا تشعر تجاه كيرن سوى بالشفقة، كيسلوفسكي يغرقنا بعاطفة شديدة من خلال شخوص متضادة في كل شيئ تتنافر وتتصارع بداخلها، في مشهد آخر نرى سمو فالنتين عن أفعال كيرن المشينة حين تضع يداها حول أذنيها وترفض أن تلوث مسمعها بالتجسس على محادثة عاطفية بين شخصين، أن ما يمنعها أن تتورط مع كيرن في أفعاله الكريهة هو الجانب المضئ بداخلها وإيمانها بالبشر رغم السوء فهم يضعفون لكن لا يموتون، في هذا العمل ترى الخيانة والكره والحقد والحب والعطف وكل شيئ، الفيلم يعبر عن فقدان إيماننا بالحب في أحلك الأوقات وعن الشعور بالذل والمهانة ونحن نطارد أوهامنا وماضينا وعن الأمل في الحياة والبشر من جديد.

هذه الثلاثية سينما رجل شغوف بها ويملك لها كل الحب، رجل لا يأبى سوى بالبشر والإنسان بكل لحظات حزنه وحبه وألمه، هذه الأفلام تعبر عن جميع البشرية، عن حبهم وعطفهم ومشاعرهم وأملهم في الحياة ويأسهم وإحباطهم، عن أولئك الحالمين وكل المحبطين وكل من يملكون بداخلهم شغف، لا تخلو هذه السلسلة من المزج الكبير الذي يقوم به كيسلوفسكي في شخوص مختلفة بكل عبقرية بكل أحاسيسها ومشاعرها المتضاربة، صورته هي كل الفيلم ومعناه وكل ما يريد إيصاله، عند كيسلوفسكي ما يجمع الناس هي المشاعر، الحب والخوف والمعاناة، هي القواسم المشتركة في البشرية لذا فهو يتحدث عنها في أفلامه، في إعتقاده في كل الأمور الأخرى يوجد الإنقسام الدائم عدا هذه المشاعر، لا يمكننا أن نغفل قدرة كيسلوفسكي على التعبير عن أفكاره وليس فقط مجرد الحديث عنها وسردها، من خلال الشخوص والصورة ترى مقدار كبير من المشاعر والأحاسيس التي تتحرك وتطفو أمامك بكل عنف، ثلاثية الألوان بيان عملي واضح الملامح عن البشر وما يملكون من إنسانية ومشاعر نقية وطهارة الفؤاد وسمو الروح، الأزرق والأبيض والأحمر صورة تعبيرية بدقة مثالية عن شخوص إنسانية.

Three Colors Trilogy-Blue Red White (1993-1994)

 


تعليقات:
    قيامك بالتسجيل وحجز اسم مستعار لك سيمكنكم من التالي:
  • الاحتفاظ بشخصيتكم الاعتبارية أو الحقيقية.
  • منع الآخرين من انتحال شخصيتك في داخل الموقع
  • إمكانية إضافة تعليقات طويلة تصل إلى 1,600 حرف
  • إضافة صورتك الشخصية أو التعبيرية
  • إضافة توقيعك الخاص على جميع مشاركاتك
  • العديد من الخصائص والتفضيلات
للتسجيل وحجز الاسم
إضغط هنا
للدخول إلى حسابك
إضغط هنا
الإخوة / متصفحي موقع المركز اليمني للإعلام نحيطكم علماُ ان
  • اي تعليق يحتوي تجريح او إساءة إلى شخص او يدعو إلى الطائفية لن يتم نشره
  • أي تعليق يتجاوز 800 حرف سوف لن يتم إعتماده
  • يجب أن تكتب تعليقك خلال أقل من 60 دقيقة من الآن، مالم فلن يتم إعتماده.
اضف تعليقك
اسمك (مطلوب)
عنوان التعليق
المدينة
بريدك الإلكتروني
اضف تعليقك (مطلوب) الأحرف المتاحة: 800
التعليقات المنشورة في الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر عن رأي الموقع   
مواضيع مرتبطة
اعتزال فنانه مصريه عاشت في اليمن
لمن غنى عمار العزكي " اللهم لاشماته " ؟
كاضم الساهر لن يشارك في " ذافويس" هذا الموسم
مقتل الفنان العراقي كرار نوشي
حكومة هادي توجه بنقل وعلاج الفنان محمد طالب