بكر السباتين: استلهمها “زكريا” من عمق الوجع وغنتها أم كلثوم مرة واحدة لصعوبتها
الثلاثاء 29 يناير-كانون الثاني 2019 الساعة 10 صباحاً / المركز اليمني للإعلام - متابعات
عدد القراءات (873)

 

بكر السباتين

 

من منا لم يعشق أغاني أم كلثوم في حياته.. وكان صوتها المتفرد يصدح في بيتي أثناء كتابة هذا النص. وكنا فيما مضى نرتشف المعنى من سلافة روحها المحلقة مع أحلام الناس لذلك ما فتئت أغانيها تحاصر الأغاني الهابطة وتحلق فوقها وكأن السماء تمطر علينا قمحاً ينذر بالحصاد.

وكان الشيخ زكريا أحمد من أهم الملحنين الذين وظفوا صوت أم كلثوم للحفاظ على أصالة الأغنية العربية شكلاً ومضموناً، فكانت معجزة الأغنية العربية “الأولة في الغرام” التي لم تغنها أم كلثوم إلا مرة واحدة في حياتها لصعوبة أدائها وهي من كلمات بيرم التونسي الذي شكل مع زكريا أجمل ثنائي تعامل مع الأصالة في الأغنية العربية الشرقية.. 

وأغنية “الأولة في الغرام” لحنها الشيخ على المقام حجازي..

وهو واحد من بين أعرق المقامات الشرقية، ويمتاز مقام حجاز بغزارة الشعور وكأنه مملوء بالأسى والشفقة. هو المقام الوحيد الذي يمكن اعتباره مقاماً شرقيا وغربيا في الوقت نفسه، فبالرغم من وجود علامة ربع تون؛ إلا أنها تبرز فقط عند الصعود في سلمه (راست) وتختفي مع النزول عند العودة (نهاوند). هذه الصفة الازدواجية منحته آفاقاً أوسع في التعبير، ومدارك موسيقية مميزة لكنها صعبت على المطرب الأداء كما هو الحال مع أغنية “الأولة في الغرام”. التي كانت لها الأغنية مناسبة طريفة تتعلق بالشيخ زكريا أحمد نفسه، فمن سياق النص وأجواء اللحن يمكن للمستمع استكشاف روح المناسبة المفجعة التي تعرض لها زكريا في أحلك أيام حياته، من خلال عاطفة الحزن الشديد المسيطرة على أجواء الأغنية؛ بسبب فراق عزيز غائب في الأبدية.. إنه وحيد الشيخ زكريا أحمد، محمد الذي اختطفه الموت إلى غياهب الفراق فتأججت عاطفة الحزن واستُنْطِقَتٍ قريحة الشاعر.. فكانت عاطفة الشجن التي سادت جو اللحن صادقة إلى درجة الاستلاب والتماهي مع المعنى الكامن في الأغنية وقد غنتها أم كلثوم مرة واحدة فقط في حياتها ولم تستطع أداءها بعد ذلك، لما تحتاجه من قوة صوت وأداء وسلطنة وبسبب علاقتها بالمناسبة التي تعتبر من المفارقات النادرة في حياتها الإنسانية والفنية.. إنها حكاية تجمع بين أركان الأصالة في الأغنية العربية.

فقد توفي محمد ابن الشيخ زكريا أحمد الذي شلّه الحزن واحترق قلبه بنار الفراق، لدرجة انه لم يذرف دمعة واحدة من شدة حزنه وذهوله وانزوى وحيداً في غرفته يناجي طيف وحيده متشوقاً للرحيل معه إلى ديار الأبدية.

وعندما زارته أم كلثوم لتواسيه هالها حاله وخشيت ان يقضي عليه الحزن، وتصورت ان الوحيد القادر على اخراجه من تلك الحالة، هو نديمه بيرم التونسي، فقالت “ابعتوا لبيرم”.

كان بيرم وقتها بالإسكندرية ولم يعلم بما جرى لنديمه، وعندما عاد الى القاهرة، كان قد مرّ على موت محمد ابن الشيخ زكريا أحمد ثلاثة أيام، قالوا له بأن الشيح يعيش في غيبوبة الرحيل إلى عالم يريده بعيداً عن الدنيا، كأنه صوفي مسترسل في الوصل مع الله. فلما دخل بيرم عليه، لم يشعر به زكريا، عندها أدرك بيرم أن عليه ان يجد طريقة لإخراجه من أحزانه..

وهل غير الموسيقى او الشعر، إلى ذلك سبيلاً؟ فأسمعه قصيدة خطرت على باله في حينه “الأولة في الغرام”، يقول في أهم مقاطعها ذات الصلة بالمناسبة الحزينة: 

“ســـافر في يوم ما واعدني على الوصال وعاهدني

وكــان وصــــاله وداع من بعد طــــول امـــــتناع

حطيت على القلب ايدى وانـــــــــا بودع وحيدي

وأقول يا عين اسعفيني وابكي وبالدمـــــع جودي

من يوم ما سافر حبيبي وانا بداوي جروحي

أتاري في يوم وداعه ودعت قلبي وروحي

طالت عليّ الليالي وانت يا روحي انت

لا قلت لي فين مكانك ولا حــترجع لي امتى”

فانسابت دموع الشيخ وأخذ في البكاء، وكأن مشاعره الجياشة قد أيقظت طاقة العطاء في عقله الباطن.. وانفتحت صناديق الذاكرة على الفاجعة وأختمر المعنى في قلب الملحن.. فيمسك بعوده بيد مرتجفة وأنامل متوترة كأنها تتلمس الجراح.. ثم أخذ يدندن باللحن حتى اكتمل دور “الأولة في الغرام” فبكى معه بيرم وظلاّ يبكيان معاً تارة، ويدندنان لمدة يومين اكتمل اللحن، ليأتي في قالب الموال من مقام الحجاز. ففاضت المعاني وهي تتفاعل في عمق الفجيعة دون أن تفقد جمالها الآسر المبهر كدأب بيرم التونسي كلما خفق قلبه وفاضت مشاعره المرهفة، وهذا الشيخ أحمد زكربا يدندن وغيبوبة الحزن توشح المعنى بغلالة من لون البنفسج وأم كلثوم تأسر القلوب وهي تصعد بصوتها في أجواء المقام حجاز في أصعب أداء غنته في تجربتها المديدة لصعوبتها فكانت أشد اختبار لصوتها العظيم.. أغنية مكتملة الأركان ومتفردة. رحمهم الله أجمعين.


تعليقات:
    قيامك بالتسجيل وحجز اسم مستعار لك سيمكنكم من التالي:
  • الاحتفاظ بشخصيتكم الاعتبارية أو الحقيقية.
  • منع الآخرين من انتحال شخصيتك في داخل الموقع
  • إمكانية إضافة تعليقات طويلة تصل إلى 1,600 حرف
  • إضافة صورتك الشخصية أو التعبيرية
  • إضافة توقيعك الخاص على جميع مشاركاتك
  • العديد من الخصائص والتفضيلات
للتسجيل وحجز الاسم
إضغط هنا
للدخول إلى حسابك
إضغط هنا
الإخوة / متصفحي موقع المركز اليمني للإعلام نحيطكم علماُ ان
  • اي تعليق يحتوي تجريح او إساءة إلى شخص او يدعو إلى الطائفية لن يتم نشره
  • أي تعليق يتجاوز 800 حرف سوف لن يتم إعتماده
  • يجب أن تكتب تعليقك خلال أقل من 60 دقيقة من الآن، مالم فلن يتم إعتماده.
اضف تعليقك
اسمك (مطلوب)
عنوان التعليق
المدينة
بريدك الإلكتروني
اضف تعليقك (مطلوب) الأحرف المتاحة: 800
التعليقات المنشورة في الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر عن رأي الموقع   
مواضيع مرتبطة
صباح بشير: نساء تقتحم التاريخ
أ. د شميسة غربي: سوقُ القبّعات
(شَهيًّا كفِراق).. جديد أحلام مستغانمي في لوعة العشق وألاعيب القدر
سماح خليفة: محطات ما زال يسير فيها قطار العمر في مجموعة “ما زال القطار يسير”
الآثار المصرية: ظهور ملوك الأسرة الخامسة في كوم أمبو لأول مرة